أحضان زائفة- تسليع العاطفة في زمن الذكاء الاصطناعي.

المؤلف: نجيب يماني08.25.2025
أحضان زائفة- تسليع العاطفة في زمن الذكاء الاصطناعي.

في نبأ يثير الأسى، نشرت جريدة الشرق الأوسط خبرًا يلامس جوهر المأساة التي يعيشها الإنسان المعاصر، حيث تلاشت قيمه النبيلة وتحولت عواطفه الرقيقة إلى مجرد سلع تُعرض وتُباع في خضم صخب الحياة العصرية وأروقة الذكاء الاصطناعي المعقدة، حتى باتت صورته المنقحة والمزيفة أكثر حضورًا وتأثيرًا من صورته الحقيقية والواقعية.

إننا نعيش في عصر يكتنفه الغموض، انقلبت فيه الموازين وتبدلت الأولويات، واستبدلت فيه المشاعر الأصيلة بأخرى زائفة ومشوهة، وتغيرت فيه القيم النبيلة.

فقد كشفت منصة "وي تشات" الصينية عن صور لمشاهد صادمة، حيث يقوم زبائن باحتضان حيوانات اللاما والسلاحف والغزلان الصغيرة، بالإضافة إلى أشبال الأسود الرائعة، وذلك في مطعم "وانهوي" الواقع في مدينة تايوان الصينية. يقوم هذا المطعم ببيع تذاكر يومية للراغبين في الاستمتاع بتجربة فريدة من نوعها وهي احتضان الحيوانات الأليفة واللعب معها، ويعتبر هذا النشاط جزءًا إضافيًا لقائمة الطعام المتنوعة التي يقدمها.

أثارت هذه الممارسة قلقًا بالغًا بشأن الوضع القانوني لهذه الحيوانات البريئة، وظروف معيشتها، بالإضافة إلى المخاوف حول سلامتها الجسدية والنفسية. واعتبر الكثيرون أن هذه الظاهرة تعد خطيرة وغير لائقة بالحيوانات العاجزة، واستحضروا قول المتنبي الشهير:

ذو العقلِ يشقى في النّعيمِ بعقلهِ

وأخو الجهالةِ في الشقاوةِ ينعمُ

وفي سياق مماثل، سبق لأحد الفنادق في المقاطعة الصينية ذاتها أن ابتكر خدمة فريدة لإيقاظ النزلاء، وذلك عن طريق حيوانات الباندا الحمراء اللطيفة، حيث تقوم هذه الحيوانات بتسلق الأسرة ومداعبة النزلاء والتمسح بهم بلطف وحنان.

يا له من بديل قبيح لوجه باسم وضاح، وعيون ناعسة يداعبها النعاس العذب، وشعر منسدل متشابك تحاول الأصابع فك خيوطه بحب، وعطر فواح يفوح منه عبير الندى الرقيق!

إن هذا السلوك المشين يعني ببساطة موت الغرائز الطبيعية التي فطر الله الناس عليها، وضياع العاطفة الأصيلة التي أودعها الخالق في تكوينهم.

فالحضن لم يعد فعلًا عفويًا نابعًا من صميم القلب، بل فقد معناه السامي وأصبح مجرد سلعة تباع وتشترى. لم يعد الحضن تلك اللحظة التي يتوقف فيها الزمن لنشعر بالسكينة والاطمئنان، وبأنه المكان الذي نلجأ إليه لنشعر بالدفء والأمان الذي نفتقده في عالمنا القاسي.

معلم الإنسانية، النبي محمد صلى الله عليه وسلم، قدوة الخير، يُفزع ويخاف من الوحي، ومرسول السماء يعلمه القرآن الكريم، فيلجأ إلى حضن زوجته خديجة رضي الله عنها، يطلب السكينة والحنان حتى تهدأ نفسه المباركة ويرتاح قلبه.

الحضن هو أثمن هدية يمكن أن نهديها لمن نحب، فهو لغة صامتة تتجاوز حدود الكلمات، وتمنح الإنسان شعورًا عميقًا بالراحة والسكينة. الحضن هو ملجأ الإنسان في أوقات الشدة، ومصدر سعادته وبهجته. والبكاء في حضن من نحب أصدق وأعمق ألف مرة من حضن حيوان لا يفقه شيئًا.

الحضن يساعد على إفراز هرمونات السعادة التي تبعث البهجة فينا، مثل هرمون الأوكسيتوسين، والدوبامين، والسيروتونين، ويسهم بشكل كبير في تخفيف حدة التوتر والقلق والاكتئاب والاضطرابات النفسية التي تعكر صفو حياتنا، ويعزز الشعور بالأمان والاحتواء. إنه لغة عالمية للتعبير عن الحب والسعادة وحتى الحزن العميق.

تؤكد الدكتورة الأمريكية فرجينيا ساتير، الخبيرة في مجال العلاقات الإنسانية، إننا بحاجة ماسة إلى أربع جرعات من العناق يوميًا لنبقى على قيد الحياة، وثمانية عناقات يوميًا لعلاج آلامنا النفسية والجسدية، واثني عشر عناقًا يوميًا لكي ننمو ونتكاثر ونزدهر.

واليوم، تحول العناق وبقية المشاعر الإنسانية النبيلة إلى مجرد سلعة سياحية تطلب ضمن قائمة الطعام، كالمقبلات والمشروبات الباردة والساخنة. يا له من انحدار أخلاقي وتردي في القيم الإنسانية! وأي شعور ميت يدفع الإنسان إلى التسوّل للحصول على حضن حيوان أعجم في سوق المشاعر المزيفة والرخيصة؟!

يقول أمير الشعراء أحمد شوقي:

لَمْ أَدْرِ مَا طِيبُ العِنَاقِ عَلَى الهَوَى

حَتّى تَرَفَّقَ سَاعِدِي فَطَوَاكِ

وَتأَوَّدَتْ أَعْطَافُ بَانِكِ فِي يَدَيَّ

وَاحْمَرَّ مِن خَفَرَيْهما خدّاكِ

ودخَلْتُ فِي لَيلَينِ: فَرْعَك والدُّجَى

وَلَثِمتُ كَالصُّبحِ المُنوِّرِ فَاكِ

يا بني آدم، الحضن ليس ترفًا أو رفاهية زائدة، بل هو لغة الجسد الأسمى والأرقى، وهو صلاة صامتة تؤدى بالأذرع المفتوحة، وطمأنينة دافئة تنسكب بلا كلمات.

تأمل لوحة العناق للفنان البولندي بيشينيسكي، فهي تجسد العناق الأبدي الرائع بين رجل وامرأة، تلاحم يفوق كل اعتبارات الزمن، ويمنح الجمال معناه الحقيقي، مؤكدًا فكرة أننا "معًا"، وأن العالم، على الرغم من قسوته وظروفه الصعبة، ما زال يحتمل شيئًا من الدفء والمودة.

ولكن أن تحتضن حيوانًا أو قردًا ليوقظك من نومك العميق، فهذا أمر يخالف الفطرة الإنسانية السوية، ويشير إلى خلل كبير في منظومة القيم. لقد أصبحت العلاقات سطحية، والمشاعر افتراضية، والحنان مستعارًا ومزيفًا.

صرنا نحضن ما يشبه الحنان، لا من يحمله بصدق وإخلاص، نشتري العاطفة بدلًا من أن نبذلها بسخاء ومحبة، وما نراه اليوم من احتضان حيوانات، وتزويج قطط، ومرافقة كلاب وتربية حيوانات مفترسة ليس حنانًا حقيقيًا، بل هو مجرد مسرحية هزلية، حب بلا عمق، وحنان بلا حقيقة، ودفء مزور. لقد ضيعنا مفاهيم الحب والتضحية، فلم يعد يُرى الحنان في قلب أم، ولا يجد الأمان في كف أب، ولا الصبر في حضن زوج أو زوجة أو حبيبة.

أيها الإنسان، قبل أن تحتضن حيوانًا، جرّب أن تحتضن قلبك أولًا. قبل أن تدفع ثمن الحنان، جرّب أن تعطيه مجانًا لمن حولك من أهلك وأصدقائك وأحبابك.

يقول الشاعر الراحل بدر بن عبد المحسن:

جمرة غضى أضمها بكفي

أضمها حيل

أبي الدفا لو تحترق كفي

وأبي سفر لليل

بردان أنا تكفى أبي احترق بدفا

لعيونك التحنان.. في عيونك المنفى

جيتك من الإعصار جفني المطر والنار

جمرة غضى أضمها حيل.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة